بين وعود الرقمنة وكابوس الواقع.. لماذا لا يزال المريض متشردًا بين الملفات الورقية؟



 الصحة الرقمية.. صفقات بالمليارات ومرضى بلا علاج

رقمنة أم "تقعريصة"؟
عندما قررت وزارة الصحة أنها ستُدخل القطاع في العصر الرقمي، استبشر الجميع خيرًا وتوقعوا أن المرضى لن يضيعوا بعد الآن بين الملفات الورقية، ولن يضطروا لحمل أكوام الوثائق بين المستشفيات والمختبرات، وأن الطبيب لن يحدّق فيك متسائلًا كأنه يراك لأول مرة في كل زيارة جديدة. لكن فجأة وجدنا أنفسنا أمام صفقات تتوالد كالأرانب، كل واحدة أغلى من الأخرى، وكل واحدة مستقلة تمامًا عن أختها. يعني بدل أن تكون هناك منصة واحدة تجمع كل شيء، أصبح لكل مؤسسة مشروعها الخاص وميزانيتها المنفصلة، وكأنهم يتحدثون عن دول مستقلة وليس مؤسسات تابعة لنفس الحكومة.

منصة واحدة؟ لا، بل "بازار" رقمي
المثير للسخرية أن الاتفاقية الإطار التي وقعتها الحكومة تتحدث عن منصة موحدة، لكن الواقع يقول العكس تمامًا. الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي له مشروعه الخاص، ووزارة الصحة لها مشروعها، وميزانيات بالمليارات تُرمى هنا وهناك، والنتيجة؟ نفس الفوضى، نفس المعاناة، نفس الطوابير الطويلة أمام المستشفيات، ونفس الطبيب الذي يسألك عن اسمك كأنه يراه لأول مرة.

المال العام.. بقرة حلوب
إذا كنت تعتقد أن الحديث عن التحول الرقمي يتعلق فقط بتطوير القطاع الصحي، فأنت واهم. في الحقيقة، نحن أمام عملية مدروسة لتوزيع كعكة المال العام على مقاولات بعينها، صفقات تُطبخ في الكواليس، وتُقدم للعموم بعبارات براقة مثل "نظام معلوماتي مندمج" و"ملف المريض المتقاسم" و"اعتماد ورقة العلاجات الإلكترونية". في النهاية، كل ما يحصل عليه المواطن هو المزيد من الضياع، بينما تذهب الأموال إلى حيث يجب أن تذهب، إلى الحسابات البنكية لمن يعرفون من أين تؤكل الكتف.

المرضى ينتظرون.. والمقاولات تحتفل
في الوقت الذي لا يجد فيه المواطن سريرًا في المستشفى، ويُطلب منه شراء الدواء والمعدات الطبية من جيبه، نجد الوزارة تنفق المليارات على شراء أجهزة قارئة للوثائق وكأن هذه الآلات ستُخفف من آلام المرضى. وبينما ينتظر المرضى شهورًا للحصول على موعد، نجد المسؤولين يبررون هذا النزيف المالي بأنه استثمار في المستقبل. عن أي مستقبل يتحدثون؟ عن المستقبل الذي لن يتمكن المواطن البسيط من العيش حتى يراه؟

الرقمنة ليست مشكلة.. المشكل فيمن يديرها
الرقمنة ليست عدوًا، بل هي الحل لو تم تطبيقها بالشكل الصحيح. لكن في هذا البلد، كل مشروع قابل ليصبح فرصة لنهب المال العام بطريقة "قانونية". لهذا السبب، عوض أن نتحدث عن منصة موحدة فعالة، أصبحنا نناقش صفقات متفرقة بميزانيات خرافية، فيما المواطن يضيع بين الأوراق، والملفات، والطوابير، والأرقام السرية التي لا يملكها إلا أصحاب القرار.

في النهاية، السؤال الذي لا يريد أحد أن يجيب عنه: هل هذه الرقمنة خُلقت لتسهيل حياة المواطن أم لتسمين حسابات البعض؟

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال